الأرشيف

من كتاب هيلين

الأرشيف
الثلاثاء ، ٢٨ يوليو ٢٠١٥ الساعة ٠٩:١٧ مساءً

مروان الغفوري


توقفت عن الكتابة إليك منذ أيام. كان هناك حدث كبير، وكانت مصر في الواجهة. أنصحك بقراءة هذه الرسالة عندما تتجاوزين سن الثامنة. عندما تكبرين ستفهمين الأمور على نحو أكثر عمقاً. دعيني ألخّص لك مصر، والعرب، لتفهمي سر انشغالي بمصر عنك، صغيرتي.

ولد النبي إبراهيم في العراق. تزوّج مواطنته ساره، وتعني بالكنعانية "الأميرة". تروي النصوص اليهودية أن اسمها كان "ساراي" أي أميرتي، لكن الرب غيره إلى ساره، أي الأميرة.

فيما بعد تزوج النبي إبراهيم، أو إبراهام، من امرأة قبطية اسمها هاجر. النبي محمد سيأتي بعد زمن طويل ويتزوج أيضاً من امرأة قبطية كما فعل جدّه، وسيكون اسمها ماريا. لذلك كان النبي محمد رقيقاً، على نحو خاص للغاية، في وصاياه بأقباط مصر "فإن لهم ذمّة ورحِماً". صحح الألباني هذا الحديث، ونسيه تلامذته.

ستنطلق الحكاية هكذا، يا هيلين:

ستنجب ساره ولداً، يكون اسمه إسحاق. يهاجر إلى الشام فينجب اليهود. ستنجب هاجر ولداً، يكون اسمه إسماعيل. يهاجر مع أمه إلى الحجار وينجب العرب. تقول النصوص اليهودية إن ساره وهاجر لم تكونا على وفاق وأن الرب اقترح على إبراهيم التفريق بينهما. تماماً مثل مقترحات حل الدولتين بين نسليهما، تلك التي ستحدث بعد أكثر من أربعة آلاف عام: نسل هاجر من العرب، ونسل ساره من اليهود.

هيلين، حبيبتي.

أنا لا أعبث أمامك بالتاريخ. عندما تكبرين ستقرئينه عبر آليات معقدة وفي أنساق مركّبة ومتداخلة. وعندما تشعرين بالإرهاق ستجدينه بهذه البساطة البدائية.

وأنت تمرّين في التاريخ ستجدين في سفر التكوين وفي البداية النهاية لابن كثير مرويات شديدة البساطة، يصعب تخيلها. لا توجد برديّات، ولا حفريات ستساعدنا على كتابة التاريخ من جديد. لذلك دعينا نسلم بأن المصريين هم أخوال العرب، تماماً مثل اليمنيين. فعندما شبّ إسماعيل، ابن السيدة المصرية هاجر، تزوج بامرأة يمنية من قبيلة جرهم، وأنجبا العرب. كان العرب أمة بسيطة، طيبة، تجري وراء الماء والزرع. كان يكفيهم نبيّ واحد، هو إسماعيل. سفر التكوين يقول إنه ليس نبياً، بينما يقول القرآن إن قادة بني إسرائيل كانوا أنبياء.

هيلين، صغيرتي..

نزلت ساره ـ وهو الاسم الذي اختاره جّدك لأمك ـ في الشام. بصحبتها إسحاق، شقيق جد العرب إسماعيل. أنجب إسحاق أنبياء اليهود. لنقل: أنبياء الشام. يعقوب، داوود، سليمان، أيوب.

أحتاجوا لعشرات الأنبياء. أما العرب فلم يكونوا بحاجة لكل أولئك الأنبياء. عاشوا أحنافاً رائعين منذ إسماعيل حتى جاء النبي محمد. حتى النبي محمد، أروع البشر على الإطلاق، ولد في مكة، في المكان الذي وصل إليه إسماعيل قبل مئات السنين، لكنه جاء في الأساس ليصحح فوضى الشام ومصر. عندما جاء النبي محمد لم يكن في الجزيرة إمبراطوريات، ولا مملكات، ولا جيوش، ولا إقطاعيات. كان هناك فقط أبو سفيان. ومن غير المعقول إن تكون السماء قد صاغت النبي محمد على ذلك النحو الساحر من الجمال والقوة والبهاء فقط لكي يهزم أبا سفيان. الشيعة تعتقد، في تصورها العميق للدين، أن مهمة الرسول محمد كانت كذلك.

التاريخ ساحر. عشتُ في التاريخ كثيراً، لذلك أشعر أني من أكثر المعمّرين على الإطلاق. لقد عايشت كل تلك الأحداث والحوادث، والخرافات التي عجّت بها الكتب.

لننسَ الآن كل هذا ونتحدث عن مصر، عن خالة العرب. سيسميها العرب: أم الدنيا.

وأنت تكبرين الآن لا أدري ما هو مصير جماعة الإخوان المسلمين، ولا المشاريع الإسلامية السياسية.

كما عودتك، صغيرتي، سألخص لك السيَر على شكل رياضيات مختصرة. فيما بعد، عندما تجدين فائضاً من الوقت، سيكون بمقدورك تفكيك هذه الرياضيات إلى نصوص مفتوحة.

في عام 1928 بدأت فكرة الإخوان المسلمين تتشكل في رؤوس أربعة أشخاص، ثم استمرت في رأس رجل واحد اسمه حسن البنا. كان حسن البنا ذكياً على نحو لا يصدق، وكان يتمتع بكاريزما تخطف الأبصار. دخلت الجماهير، مدفوعة بكبرياء جريحة بسبب الاحتلال الانجليزي، في مشروع البنا: الإخوان المسلمون. شكل البنا نظاماً عسكرياً موازياً، سيكبر فيما بعد ويتسبب في أول انهيار لحركة الإخوان المسلمين. قتل البنا في ال43 من عمره. كان رجاله مؤمنين بقدراته حد اليقين. شاب واحد فقط من رجاله كان يركّز عينيه طيلة الوقت على خاصية فريدة في شخصية البنا: الكاريزما. سيكون اسم هذا الشاب "جمال عبد الناصر" وسيغادر الإخوان ليصنع بكاريزميته أكثر الأزمنة العربية ضجيجاً وتأثيراً وحيويّة. سيختلف مع رجال التنظيم حول السلطة والهيمنة، ولن تلاقي عروضه الرضا الكامل. معتمداً على قوة الدولة التي آلت إليه سيلقي القبض قيادة التنظيم، في الوقت الذي سيقاتل فيه إسرائيل وفرنسا وإنجلترا. عاش الرجل أوقاتاً عصيبة للغاية، ومات بجلطة في القلب في سن ال 53. لقد عاش عشر سنوات أطول من البنا، لكنه حقق إنجازات استثنائية، انهزم وانتصر. وضع الثورة اليمنية والجزائرية والفلسطينية على كتفيه. كانت مخابراته تحارب في الجزائر وجيشه في صنعاء وإعلامه بين الأردن وفلسطين، وكانت طائراته تقصف جنوب السعودية وتهدد نوايا حكام بغداد تجاه الكويت.. إلخ. كان يفعل كل شيء، في كل الاتجاهات. وكان أيضاً يصادر الحرية ويقمع المعارضين ويخلق جمهورية خوف كبيرة في الداخل.

في سجونه انشق الإخوان المسلمون إلى تيارين: تيار حسن البنا، وتيار سيد قطب. سينهزم تيار حسن البنا، تيار الجسور الممدودة والأبواب المفتوحة مع كل القوى والإثنيات والديانات، وسيستمر تيار سيد قطب، تيار الجيل القرآني و"العزلة الشعورية" والاستعلاء، كما تقول الثيمات المركزية في تنظيرات قطب. في السجن أيضاً قررت الجماعة عزل مثقفين إخوان حاولوا إعادة خلق نموذج البنا وفلسفته. ربما ستسمعين عن عبد السميع، وعن آخرين، اختفوا من مذكرات الإخوان إلى الأبد.

سيخرج جيل سيد قطب من السجن، وسيكون منهم محمد بديع، ومحمود غزلان، ومحمد مهدي عاكف. سيستمر هذا الجيل في عملية تصفية مستمرة لتيار حسن البنا. مع تولي محمد بديع قيادة التنظيم بعد مهدي عاكف سيغادر التنظيم، في حدث مدوّ، رجلان من أخطر رجالات التنظيم في الأربعين عاماً الأخيرة: عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد حبيب. سيسدل التنظيم، مؤقتاً، الستار على حسن البنا مع خروج الرجلين.

تحدث الثورة المصريّة في 25 يناير 2011. مع نهاية 2011 سيلقي محمد

بديع خطاباً يقول فيه: لقد اقتربنا الآن من تحقيق حلم حسن البنا في الخلافة وأستاذية العالم. يختارُ لرئاسة مصر رجلاً طيب القلب، له سحنة أبي ذر الغفاري، سيكون اسمُه محمد مرسي. كان النبي محمد قد منع الولاية عن أبي ذر. كان أبو ذر رجلاً طيب القلب، رهيف المشاعر، سريع الانفعال، لا يصلح للسياسة، حيثُ تدور المعادلات في الممنوع والمحظور، في تلك الشعرة الحادة التي تفصل الفضيلة والرذيلة. لا أحد يدري لماذا أصر بديع على اختيار مرسي، لكن هناك من يتكهّن بأمور كثيرة على شاكلة أن بديع كان يعيش أجواء الخلافة الإسلامية، وبالنسبة لمصر فقد عهد بها إلى رجل مخلص من رجاله. فعلى كل حال، فكّر بديع، ستصبح مصر مجرّد ملف كبير في إرشيف مكتب الإرشاد، حيثُ عشرات الملفات.

شعر شباب مصر بأنهم غير قادرين على تحديد الرجل الذي يدير بلادهم، وأنهم ربما يوجهون اللوم إلى رجل بريء. خرجوا في مظاهرات مستمرة، مدفوعين بهاجس ثوري مشتعل. اشتبكوا، في حادثة شهيرة، مع شباب التنظيم الإخواني وحدثت خسائر كثيرة. كان ذلك في الأيام الأولى لمرسي، أو قبل أيامه الأولى بقليل. خرج بديع في مؤتمر صحفي ليسرد الخسائر. قال كلمته المشهورة "النباتات، ما ذنب النباتات". مصر، خالة العرب يا هيلين، هي من اخترعت شخصية "قراقوش"، وكان الفراعنة قبل آلاف السنين قد منعوا المحاميين المصرين من دخول المحاكم بسبب تندرهم على القضاة. هكذا أصبحت جملة "النباتات، ما ذنب النباتات" هي أسوأ خاتمة لحلم "أستاذية العالم"..

غداً سأستكمل معك الحكاية، هيلين، حبيبتي..

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
شريط الأخبار